أسرة الراحلة
لا نقوى على البدء دون أن نستعيد ما قاله جبران "والبعض نحبهم، فنملأ الأرض بحبهم ونحدّث الدنيا عنهم، نحتاج إلى وجودهم كالماء والهواء، ونختنق في غيابهم أو الإبتعاد عنهم".
عميدة أسرتنا الحبيبة، رحلتِ عنّا حين تربّص بنا ما لم نشعر به إلّا متأخرين، وحينما لم يكتفِ الوجد بالأرض بيتاً. ورحلتِ، حين لم تتسع الأوطان للحلم ولن يُجدَل من ضوء الشمس قوساً من القزح مجدداً. ناديتِ العصافير مراراً وتكراراً، وهمَستِ لها وهمَسَتْ لكِ، ثِقل حكاياكِ وشَدو حنينها. لم نسمعها، فها نحن اليوم نهيم بين قصاصات كتاباتكِ الطافحة بالشوق حيناً وبالعشق أحياناً وبالحلم دوماً.
أمّنا الحبيبة، نحادثكِ كما كل يوم، ونمر عليكِ كل لحظة بابتسامة ونبكيكِ. نفتّش في كلمات الرثاء عنكِ، ونفشل في اختيار مفردات الرجاء بأن يعود الزمن. نذوب بين سطور أشعارك لنرسم صورة في نهاية كل جملة، ولنخطّ بداية نص جديد. فنضيع بشغف في قصص الثورة والوطن، ورسائل الحب والتعب، ووجع الشهيد والبندقية، وأمل الشوق والطفل، ومسيرة الحلم والعودة. نحن الآن تائهون في حروف الأبجدية في كلماتنا المخنوقة. لكن مهما نأينا عنها، سندنو حتى من مساحة الكلام الذي لن يُقال. نعودكِ كما تعودينا، بل اليوم أكثر، فمهما رحلتِ عنّا، ستحيين أكثر.
رفيقة الدرب، تركتِ لنا إرثاً جميلاً عفيفاً. تركتِ لنا حملاً ثقيلاً وموجعاً. فإرثُكِ مجبول بحب غير مشروط للوطن الذي استنشقتِ الشموخ في الجزء المتاح منه حين وطأته. لن ننسى صراخك يوم العودة "لا شيء أغلى من الوطن". وإرثكِ ممزوج بملامح الحب بلا حدود، كيف لا .. وكنت تنتظرين قصص العشق منّا وأنت روح القصة قبل أن تُروى. إرثكِ أبيض نقي كوجه رضيع، فسيرتك تتوسّم على صدورنا بظلال نقية دائمة الانتشار. نحن الآن نولد من جديد بسيرتك العطرة، فهنيئاً لنا بإرثك. ما تركتِه لنا أيتها الجدّة الغالية موسوم هذه المرّة بسعادة أحفادك، في عينيّ ميلاد وهو يشم ورد الياسمين كما عودتِه، وضحكة آرام الذي يختبىء بها. إرثكِ متشبّث بالأرض بقدر صلابتك، راسخ كجبل الطور، عاشق للحياة وزاهد فيها. إرثكِ شوكة في حلق كيان غاصب، لم يكبح جماح عطاءك، بل كنت روحاً للقضية. إرثكِ تشتت مرتين، فبقيتِ السنديانة غليظة الساق تغنّين أغاني اللقاء. إرثكِ ينهض في كل مرة ينتكس فيها، كيف لا .. وأنتِ الملاذ الآمن لكل شيء، يا معلماً لجبروت الصبر والإصرار، أشجار الزيتون تستشهد بما قاله درويش "إن المستقبل منذُئذٍ، هو ماضيك القادم".
إرثكِ الآن أصبح من مقتنياتنا الشخصية يا عبق الروح ومأواها. ولروحكِ منّا ألف وعد بأن نصونه. سنبقى نرسم الورد مثلك، وسننذر أرواحنا للصفاء والحياة الصادقة، وسنتشبث بكل ما رسختِه بنا وفي بيتنا من قيم ومبادىء في كل الأحوال والأزمان. شريك حياتك ومسيرتكِ لم يقوَ على رثائك، فلم يصل الرثاء قامتك بعد. هو الآن على عهد تخليد اسمك بعد ما أغلقتِ أوراق عمرك. إبنتكِ الكبرى، الأم الحنون، تنهض في الصباح كل يوم لأجلك ولأجل من تحبين. فهي ستمشي على خطاكِ مع رفيقها الأصيل في رسم حلم إستكمال العودة أمام عيون أولادها في كل تفاصيل الحياة. إبنتكِ الوسطى، رقيقة المشاعر، ستبقى تسابق الزمان كما اعتادت معكِ. وستربط سنوات العمر القادمة بما رسمتِ معها. أمّا إبنكِ الصغير، الفارس الجميل، فسيبقى يُتحفنا ويُتحفكِ كما اعتدنا واعتدتِ، فهو من خضّم إرثكِ الفريد. عاهدَ نفسه بأن ينشر ما استنشقتِ من حروف وكلمات في عمركِ ليضيف للإرث الفلسطيني من نكهتك.
رفيقتنا وأمّنا وجدّتنا، لروحكِ منّا بساتين من زهر الحنّون طالما حيينا.