في رثاء المناضلة نهاية محمد

أنا النهاية، أروي لأبقى

 

عبدالله عيسى-موسكو

لم نعد، كلّنا: نحن المائلين على صناديق السلالة حيث رائحة مفاتيح بيوتنا القديمة في فلسطين لم تصدأ بعد، وحيث ملامح السلالة  في الصور لم تذبل بعد فيها ، لتحرس أجسادنا بحلم عودتنا من مجزرة طائشة أو هجرة تربك التاريخ ِوتؤرق الجغرافيا، لم نعد، كما كنا تماماً قبل أن يزورنا هذا الموت بكل ذاك الدمار المبين، نرى ظلّ نهاية محمد صاعداً أدراج إقليم سوريا في قلب مخيم اليرموك، وهي تربت على جدرانه، وكانت أيضاً في الطريق إليه في الحواري والأزقة التي ضاقت كالأرض كاملةً على حلم الفلسطيني، تطالع صور الشهداء وتتفقد ابتساماتهم ونظراتهم وأسماءهم واحداً واحداً: خالد نزال، عمر القاسم، وآخرين جميلين في مرايا الذاكرة. ولم تقل لأحد منّا أن الفسحة التي بقيت، ككسرة سماء تطل على عتمة السجن، بين الشهيدين تليق بها تماماً، لنتفقد نحن ابتسامتها ونظرتها في مرايا ذاكرتنا وهي تروي لنذكر: 

أنا نهاية. أصغر شقيق وشقيقتين، لأب يشبه جدنا الكنعاني الذي وحّد الآلهة باسم الإله " إبل" لتكنى به ملائكة مثل جبرائيل وإسرافيل وعزرائيل، وشعباً مثل " إسرائيل " خرج من تلموده القديم بوصايا رب الجند مدججاً بالحقد المقدس ليقترف بنا التقتيل والتشريد، وأمٌ، سليلة أمنا الكنعانية تعلم حكمة شعبها للنحل كي يصنع العسل، وللشعوب المجاورة صناعة السفن والصباغة، وللبداوى فن تربية المواشي.

على أرضهما تزوجا، ذاك العامل القويّ كسور عكا القادم من لوبيا في الجليل، وتلك البسيطة كماء طبريا حيث عاشت. أشبه بقطرتي مطر توحدا، قبل أن يأتي العابرون الجدد ويفسدوا حلمهما بمنع الأمم من الانقراض بتعليمها فن غناء الميجنا والدبكة والتطريز ونشيد شعبهما الطويل كحنين بحارة فينيقيين انتسبوا لبطولة الرواية الفلسطينية. 

لم أجئ إلا لأحلم كي أعود. 

أنا نهاية. حملتتي أمي في بطنها، على امتداد درب آلامها الطويل، ككل أعضاء السلالة الفلسطينية، مذ رمى العابرون حقائبهم على أسرّتنا التي هجرونا منها موغلين بغريزة القتل المقدس، من طبريا إلى بنت جبيل جنوب لبنان حيث ولدتني، لا كما ينبغي أن تلد الأمهات. وحملتتي، لا كما ينبغي أن يُحمل الأطفال في المهد، من صيدا إلى الشام، وصُرة لجوئها على ظهرها، فيما يعتصم بجسدها الماضي إلى غده اللاجئ في بلاد غريبة أخوتي عادل واعتدال ووداد. 

لم يكن لي وطن لأقصّ عليه مفردات طفولتي، ككل أطفال الأرض، إلا ما تسرد ذاكرة السلالة، في مكان ما في أرضٍ ما، كان يمكن أن يكون مَنْسياً لولا حلولنا فيه، نحن الأحياء الذين نبقى نحلم كي نعود، سمّوه مخيماً، وسمٌونا، لنظل قابضين على جمرة الحلم بالحياة كي نعود، لاجئين. 

 ولأنني ما أزال أحلم، أروي سيرتي تلك في مرايا عودتي المنقوصة إلى وطني المنقوص ما يزال في الضفة الغربية، بالعودة كاملة إلى وطني كاملاً من غير سوء: جيء بي، وأسرتي التي التحمت بعائلات فلسطينيات لاجئات من أرجاء فلسطين الممتدة، إلى حي، أقلّ من مخيم وأوسع من مقبرة جماعية، على مقربة من طلعة الشيخ محي الدين بن عربي، ألماً على ألم، وفقراً على فقر، لتضيق الأرض بما اتسعت على أجسادنا المكلومة بالحنين إلى الوطن الأم وحلم العودة إليه.

أنا تلك الصبية، بملامحي السمراء كاملة الأوصاف، واسمي واضح كحزن نبي غريب في أهله، ألمُ بذراعي الذين لم يبلغا بعد الرابعة عشر، أقراني في المدرسة حولي، لنردد النشيد الذي كان عالياً على قاماتنا الصغيرة " تحيا الوحدة العربية "، وكنا قد ظنناها بوحي حلمنا، طريق عودة إلى فلسطين.

وأنا تلك التي تصطحبني أمي برفقة الأمهات الفلسطينيات الأخريات لانتقاء الهندباء والخبيزة والمشمش والجوز، وتشيّعني للعمل مبكراً، لسدّ حوصلاتنا الجائعة، ثم فيما بعد للالتحاق بالعمال في معمل سيرونيكس لتجميع التليفزيونات، ولم يكن أحدها في بيتنا، لدرء عبء نفقات تحصيلي العلمي في كلية الحقوق عمن سواي. 

وأنا تلك نهاية طالبة البكالوريا في ثانوية البنات الأولى التي يركض ظلها برسالة من الرفاق المتخفّين، وقد أخفيتُها في نطاقي، إلى الوحدويين المتخفّين مثلهم عن أنوف المخبرين وعيون العسس.

لم ير أحد، مثلي، ظلي ذاك مرتعشاً في مدرسة البنات الأولى في الميسات، أعلى "المزرعة " وأسفل الشيخ "محي الدين"، وأنا أعلق مجلة الحائط بخطوط ممهورة بألوان العلم الفلسطيني، وأناصر، بالفكرة التي تعلو على جسارة الروح وحنكة الصوت كي لا يعرفه المخبرون ويقتادونه إلى عتمة السجون، الفكر الوحدوي الناصري، وأفكار ساطع الحصري وعبد الرحمن الكواكبي القومية التحررية آنذاك، والأدب السوفييتي كروايات الحرب العالمية العظمى، و"الأم"، و"عشرة أيام هزت العالم"، وسواها. 

وكنتُ أروي كي أَذكّرَ أن الفلسطيني الذي ما يزال يدق الخزان يبقى يهزّ العالم ببطولة تراجيدياه، ويخيل لي أن على جون ريد الذي هز العالم بتأملاته في شعلة ثورة أكتوبر أن يأتي إلى مخيماتنا في الشتات أو بيوتنا الصامدة بأهلها تحت الاحتلال ليسطر الملحمة الفلسطينية، وأن الأمّ، أي أم فلسطينية، تكتب أسطورتها الخالدة، كتلك الأم التي أرّخ لحكايتها غوركي في روايته.

وأنا، أسوة بجدتنا الكنعانية التي حرست بفائض صبرها وفيض حكمتها حلم شعبها، لا أكتفي بتعليم الرياضيات في مدرسة "فرادة" في مخيم "سبينة"، فأواصل قص رؤياي على الكواكب والشمس والقمر الساجدين لبطولته، كما لبطولات مخيمات اليرموك وخان الشيح والنيرب وجرمانا والسيدة زينب والعائدين ودرعا وشقيقاتها. إن المرأة الفلسطينية حارسة حلم العودة والإستقلال الأبدي، بالزغرودة والميجنا والدبكة، أجمل، ككل أعضاء سلالتها، في مرايا التاريخ الإنساني من مزامير قاتل شعبها العصريّ.

وكأن ظلي لا يزال هناك في مكتب إقليم الجبهة الديمقراطية، على مقربة من مقبرة الشهداء، يقرأ الفاتحة ويحرس غفوتهم، ويذرع أزقة المخيمات، بصحبة نساء المخيمات اللواتي صرن امرأة واحدة، نحض الرجال على البطولة، ونحيّي على حلم العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة.

كُنتُ أروي في مراياي شيئاً، فيصاب بئر البيت القديم بالحزن مثلي:

وكأنني حسبتُ أن المكان المتسع لصورتي بين الشهداء المبتسمين، الحالمين، أبداً مثلي، سيبقى لي فوق جدران هذه المخيمات التي شئنا أن تصير متاحف بعد عودتنا تروي سيرتنا على الرواة والعصاة والطغاة، قبل أن يزورها الموت والدمار ويعبثان بحلم الحياة، وحياة الحلم بالعودة فيها.

وأنا هي، نهاية محمد، حاملة، وحارسة، حلم العودة إلى الوطن، لم أتمهّل الأبد الذاهب بي إلى غده، والعمر، عمري، المرفوع على نشيد العودة في درب آلامنا الطويل، لأعود إلى الجزء الممكن من وطني المحتلّ. 

وكأنني عدتُ، ولم أعد. 

ظلالي هناك في مخيمات اللجوء تذكّر بي هنا، في رام الله، وعلى مقربة من القدس، حيث السماء قربية من قلب الرب. الحجارة التي تحتفظ ما تزال برائحة ظلال أمنا الكنعانية التي أشبهها، لا تشير إلى أثر عابرٍ لأولئك العابرين الذين خرجوا، بأحقادهم، من العهد القديم، ليمحو أسماءنا وأجسادنا المتوحدة أبداً بالمكان المقدس، وطننا الأصلي. 

وكما هناك، في أزقة المخيمات والبيوت التي ضاقت على ساكنيها، حيث أحفظ أسماءهم واحداً واحداً، وأوصاف شهدائهم واحداً واحداً، وسيرة أحفادهم واحداً واحداً، حفظت هنا ملامح المكان، وانحناءات طرق البلدات التي تصل أرحام القرى برغبة إلهية، ومواقف المواصلات العامة، وأصوات الباعة أيضاً، وكذا أسماء القرى المدمرة في الوطن كله، والروح البشري الفلسطيني التي ترفعه مع الصلوات لتحرس به تعاليم الرب وأجنحة الملائكة بين طائرات الأعداء العمياء ورصاص المستوطنين المدججين بغريزة القتل المقدس. 

أكاديمي وإعلامي وشاعر وأديب فلسطيني 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *