نهاية محمد: مدرسة الائتلاف والاختلاف

د. فيحاء عبد الهادي

من يعرفها؛ يعرف معنى أن يلتصق حب الوطن بالجلد حتى يصبح واحداً، منذ نعومة أظافرها، إثر تهجير أسرتها من طبريا عام 1948، والإقامة في مخيمات سوريا، ومخيمات لبنان، ثم عودتها للوطن في بداية التسعينيات؛ ناضلت نهاية محمد لتحقيق حلم الاستقلال، ومعانقة الحرية، بمستوياتها كافة.

من يعرف نهاية الحبيبة؛ يعرف كيف يمكن التشبث بالحلم، وكيف يمكن العمل بلا كلل ولا ملل لتحقيقه، من عرف قصة كفاحها؛ عرف ماذا يعني ارتباط العمل السياسي بالعمل النقابي والحقوقي، من سمع صوتها؛ أدرك أن الصوت المنخفض الواثق هو سلاح الأقوياء، من عمل معها؛ لمس ملامح شخصيتها العذبة؛ حسّها الإنساني، ورقة قلبها، وصلابة مواقفها السياسية، ومرونة مواقفها النقابية، وقدرتها غير المحدودة على الائتلاف والاختلاف.   

عرفتها من خلال علاقتها الحميمة بالوالدة عصام عبد الهادي، التقيتها لأول مرة في بيروت، منتصف السبعينيات، حين كانت تحضر اجتماعات الأمانة العام للاتحاد كأصغر عضوة فيها، لفتتني قدرتها على العمل الدؤوب، مع نساء مناضلات في سن والدتها، ولفتتني رغبتها في انتهال المعرفة منهن، إيماناً منها بضرورة الانطلاق من خبرتهن في العمل السياسي والنقابي، وتطوير قدراتها الذاتية: "إحنا كنا بـ 68 بأول عمرنا ومندفعين، ويعني المثل الأعلى إلنا كان هو النساء المناضلات، وبالنسبة إلي كانت عصام عبد الهادي نموذج مثل أعلى، قدوة، بمقابلتي إلها تجسَّد النموذج اللي بالذهن مع الشخص اللي قدّامي. عصام كل واحد إله مكان عندها، ما بتلغي الآخرين، مهما كانت إمكانيات هذا الآخر اللي بجنبها، أنا بحس إنه دورها كان بإطار الأمانة العامة بشكل عام ككل (تشير بيدها بحركة دائرية) زي المايسترو، اللي كان يحرص على إنه كل فريق يكون إله دوره بمهامه وبتكامل مع الآخرين، هذا نمط من القيادة اللي بفسِح المجال لكل أعضاء الهيئة، لوجودهم، لتعزيزهم، يعني يمكن مش كثير منتشر عنا بتجربتنا الفلسطينية."

 وكلما التقيت نهاية، بعد هذا التاريخ؛ برزت صورة شابة جميلة صغيرة، تنهل من المعرفة، وتشارك بفاعلية في العمل السياسي والنقابي، بإيمان عال، وبهمة وحيوية وحماسة نادرة. لم تمثِّل الصديقة نهاية محمد ظاهرة نسوية فحسب؛ بل مثلت ظاهرة سياسية ونسوية ونقابية وإنسانية في آن.. كيف استطاعت؟ هذا سرها، وسرّ القدرة على الائتلاف والاختلاف؛ القدرة العالية على نسج التحالفات، مع الاحتفاظ بهامش الاختلاف، كما انه سرّ إيمانها بالعمل الوحدوي، والديمقراطي، لم تؤمن بالفصل بين السياسة والعمل النسوي، منذ بداية نشاطها السياسي، بل عملت على الربط بينهما وبين العمل والإنساني بكفاءة عالية. 

دخلت المعترك السياسي شابة صغيرة، وبالتوازي مع السياسة خاضت غمار العمل النقابي، وأصبح ملازماً لها، ومرتبطاً باسمها، تماماً كما العمل السياسي، ارتبط اسمها بالنضال السياسي، ضمن موقعها القيادي المؤثر في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كعضو اللجنة المركزية منذ عام 1973.

القيادية نهاية محمد تعد من أهم مؤسسي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حيث بدأت مشوارها النضالي مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكانت دوماً تمزج بين دورها كمناضلة وطنية، وقيادية في الحركة النسائية. تولت الكثير من المسؤوليات القيادية في الجبهة، إلى جانب موقعها في الحركة النسائية، وكانت القائد الأول لمنظمة الجبهة في سوريا، واستمرت في هذا الدور بعد قدومها إلى فلسطين.

وارتبط اسمها بالعمل النقابي، كعضو أمانة عامة في الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، حتى عام 2009، ثم كنائبة لرئيسة الإتحاد حتى رحيلها، كما شغلت موقع رئيسة جمعية النجدة لتنمية المرأة الفلسطينية. آمنت بأهمية المزج بين السياسة وحقوق النساء الفلسطينيات، وناضلت من خلال موقعها في الإتحاد، مع الحركة النسوية الفلسطينية، من أجل تضمين حقوق النساء الفلسطينيات في التشريعات والقوانين.

أي مستقبل مضيء ناضلت نهاية محمد، من أجل الوصول إليه؟ وأي واقع أسود أغمضت عينيها عليه؟! عادت مع عائلتها إلى رام الله، عادت لتناضل من قلب الوطن؛ لتحقيق حلم العودة إلى طبريا:" أنا لمّا إجيت لهون اعتبرت رجعتي للوطن رح تسهم بقضية بناء الإتحاد وإلخ، أنا عايشة طول عمري على حلم العودة، وإنه هذا تحقق، إزا كنت قصرت مع ولادي بفترة ما، أو عملت بفعل انخراطي بمهام نضال وعمل، إنه لإني بدي أعود للوطن، إنه هذا طلع فيه مُبرّر، إنه الولاد رجعوا للوطن، رجعوا لأهلهم، رجعوا لبلادهم".

ما الذي يمكن أن نعدها به؟ سوف نستلهم من خبرتها، ومن مسيرة حياتها، ما يجعلنا قادرين على التقاط النور الخافت، والخيط الأبيض من الواقع الأسود. سوف نلتقط بذرة الأمل؛ لنزرعها، ونرعاها، حتى تبرعم. سوف نستلهم من مسيرتها دأب النمل، وخفة الفراشة، ونشاط النحل، وشراسة اللبؤة، نهاية الحبيبة، سوف تبقين حاضرة في ذاكرتنا الشخصية والجماعية أبداً، وسوف نستكمل ما بدأتِ وزميلاتك المناضلات، من تعديل وتطوير وصياغة القوانين والتشريعات، التي تحميهن، وتبني مجتمعاً حراً خالياً من التمييز والقهر والظلم. وسوف نمضي قدماً نحو استكمال حلم العودة والاستقلال؛ نرفض الانشطار، ونحافظ على وحدة الشعب، وعلى الأفكار التنويرية، ونرسِّخ قيم الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان.

شاعرة وكاتبة فلسطينية

متخصصة في التاريخ الشفوي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *