هل أعرفكم على سيدة العطاء: “نهاية محمد”

ريما كتانة نزال

تلك اللحظة الشفافة، وضعت "نهاية محمد" بعض الأوراق في مغلف كتبت عليه: هذا ما لدي للجبهة، والله على ما أقول شهيد.. أغلقت أوراق عمرها، جالسة على قمة، سيرة ومسيرة، وطنية ونسوية، ممتدة ورفيعة.

 

هكذا أدركت "نهاية" أنها ذاهبة إلى عالمها الآخر، عندما ضنّ الهواء النفَس على كريمة النفْس واليَد. فودّعت على مضض، حياة حافلة بالنشاط والنضال في ساحات الوطن، وعلى أرض ساحات المرور الإجباري نحو الوطن، وقبور بحيرة "طبريا".

 

هكذا رحلت صديقتي مستمرة تكليفي بمهمة أخيرة، ولطالما حملتني مسؤوليات، استسغت معظمها، والبعض الآخر أذهب إليه طائعة دون خَيار، أوامر الرفيقة مُطاعة. قالت ودمعتها تطل من خلف ابتسامة لدى رحيل صديقنا "هشام أبو غوش"، "لقد أرجعت له حقه" واستطردت كمن يقرأ الطالع: "تجيدين تجميل الموت". ضحكنا بخفة، كانت جادة وكنت حائرة.

 

وهل يمكن تجميل الموت! أبحث في الحروف عن نص للموت الجميل، أبيض دون سواد، أبحث عن كلمات لا يرطّبها الدمع. أعجز وأطلب مساعدتك في كلمات رسالة منك يوم فراق ما: "سنجد ما يعوضنا في لثغ الحليب من بين أسنان "غيث وأمجد"، سنجده في الغرق في دسم مواسم الوطن وفي إزاحة القهر عن ظهر امرأة".

 

 لست أنا من يجمِّل الموت، بل موتك من زينه ووضع الألوان على وجهه الكريه، لقد ظفر بقامتك العالية، بعد إصرار وبحث بلا كلل عنك، متجملاً بسيرتك. لستُ من يجمِّل الموت.. أنت صاحبة منهج البحث عن الضوء في عتمة الفقد، أنت خير من يشدّ الأمل من الاعاقات المزمنة..أنت من يمسك الخيوط، أنت من أتقن فن رؤية نصف الكوب الملآن. أنت من تحضِّر لكل نص باقتدار ومهارة، فلا مُعادل للعفوية والارتجال في قاموسك، ولا مكان سوى للتحضير والإعداد في نواميسك.

 

ظلمتني "نهاية" البدايات والنهايات، لم تمهلني لأكتب نصاً أبيض دون سواد، تركتني عالقة أتصارع مع قلمي الصعب، فعليه أن يتعامل منذ اللحظة مع مفردات الماضي، اسماً وفعلاً وحروفاً. وهل يمكن لقلم فاقد مبراته أن يعبر عن حالة الطفلة اللاجئة التي تعلمت القفز في شوارع دمشق ومخيماتها حاملة مهاما أكبر من ضآلة جسدها وعمرها.

 

هل أعرفكم على "نهاية محمد"، إنها سيدة الأخلاقيات والقيم التي لا تموت، رمز لحالة نسوية جميلة. نموذج للعطاء والنقاء، كرم النفس واليد بصمت. أداؤها يقول عنها، بالجملة والمفرّق. إنها الشخصية التي لا تقبل الخطأ، ولا تطلق الخيال خوفاً على طهارة البداية.. إنها سيدة القداسة. ومع ذلك لا يمكن أن نطلق عليها وصف الزهد، لقد أحبَّت الحياة على اتساعها وملذاتها، تحب الأكل والضيافة، وتحب شراء الملابس أكثر من ارتدائها، تحب الأثاث والبيوت الجميلة وارتياد المطاعم، تحب إطلاق أرجلها للريح أكثر من السفر الذي منع الاحتلال حقها به. وتملأ رئتها ضحكا من مهازل وسخريات الواقع.

 

هل أعرفكم على الراحلة النبيلة، إنها الانسانة الراقية من طراز خاص، ذات أنفة وكبرياء، من القلائل اللواتي يتبادل قلبها وعقلها الأدوار، تتبادل شخصيتها الاستثنائية الأدوار مع شخصيتها العادية، تعيش القضية وتعايشها، تنحاز دائماً للعام على حساب الخاص، للوطنية قبل الحزبية، للمظاليم والمسحوقين، للنساء الفقيرات والمتعبات.

 

إنها رمز البساطة الساحرة والتواضع المتمرِّد، يتبادلان الوقت مع الشخصية المليئة دون خداع أو ادعاء، تتقن المناورة والتكتيك دون الوقوع بخلل الحفاظ على المبدأ، تمسك شعرة معاوية بإتقان، تحافظ على دورها المركزي بثقة ووعي. قوية دون استعراض، كارهة للزيف والنفاق.

 

سيدة الإرادة والكفاح، وضعتنا صديقتنا أمام مفاجأة الرحيل المتوقع أكثر من تبعات الموت نفسه، فقد أقنعتنا بقوة بأسها وقدراتها على الإقناع، أن بإمكانها العودة بعد كل مرة يغيِّبها المرض، لتبدأ من حيث توقف النقاش، إنه سباقها الماراثوني الدائم مع الوقت والمرض، والبحث عن حدود الوقت.

 

هل عرفتم من هي نهاية محمد: إنها التي جلست بارتياح على تراث ومدرسة النضال الدؤوب والمستمر دون كبوات أو هفوات. لم تستند إلى قوة عائلية تدفعها، ولم تشتر منصبها وموقعها، بل استندت إلى سيرة نقية من شوائب دخيلة أو مُدخلة، لم تطلب لنفسها أي شيء لأنها كانت تمتلك كل شيء، الانتماء للخير والإنسانية بثقتها العالية بالذات، وقناعتها الخلّاقة بذاتها التي لا تشوبها شائبة. بالإخلاص والانتماء ارتفعت؛ وعليهما أقنعت. وهو ما اجتذبها نحو الخلود في قلوبنا.

 

يا نهاية:

لم تعطني الوقت الكافي لكتابة نص يليق برحيلك النبيل، ولم تمهليني لاستكمل جدالنا الذي لا ينتهي، للإفضاء بما تبقى لي من بوح بدأته معك منذ مدة، فتتعبين من نزقي وتقولين، ألا زالت شهيتك مفتوحة للبوح، فأغيظك وأقول: أنت معلمتي العنيدة. تديرين دفة الحديث باقتدار، وسأدير دفتي امتثالا لرغبتك، وسأستدرجك له. أواه لم يمهلني قدرك..

أكتب لك وأنت في قبر بعيد عن طبريا، بعواطفي اللاهبة على الرحيل القاسي، سأبقى أبحث عن أنفاسك الهاربة في مكان ما، وسأعيش، بالتقسيط صعقة فجيعتنا بك، بكل نزف الحزن الذي انهمر علينا، بينما الأنابيب تسرح وتمرح على جسدك الضئيل. وسيبقى صوتك الضعيف عبر فراش المرض يرن في أذني، ليتنا نسترجع عقارب الساعة علني أستعيد جميع لحظاتنا التي هربت لا أحسم إن كانت؛ قبل أو بعد أو في أوانها.. بينما أجلس قرب ورقة أكتب هراء الرحيل، عن انسانة في مركز تاريخي ومسيرتي.

هل أحدثكم عن نهاية، لا تصدقوني، أجدني عاجزة عن لمَ كلماتي من شتاتها، يخونني التعبير وتضللني المفردات، الأشياء الجميلة تستعجل الرحيل في حياتي، رحلت رفيقتي "نهاية"، وتركت لنا الحيرة الممزوجة بألم الزمن الأغبر.

ترفقي بي "نهاية"، وترفّق يا موت بنا، لقد خطفت الغالية، كما تفعل مع كل الناس، ولكن، كان لرحيلها معنىً وطعماً مختلفين تماما .

عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *