خلدات حسين- لبنان
عندما تكون الكتابة عن راحلة بقامة الرفيقه نهاية محمد، يعجز تسلسل الكلام عن ايفاء امرأة بشمولية المناضلة الوطنية والنسوية حقها. نعم، ليس من السهل أن نختزل تاريخ عريق يعود إلى أكثر من 46 عاماً لم ينفصل فيه الوطني عن النسوي بكلمات. ليس من السهل الحديث عن راحلة مضت دون أن تتسنى لنا فرصة وداعها، تاركةً لنا طيف ابتسامة لا يمكن أن تنمحي من الذاكرة، وإرثاً نضالياً عريقاً، عميقاً، متشعباً، متنوعاً دون أن يغرقنا الدمع في متاهات البحث عن الكلام المعبر عن صعوبة الفقدان ومرارته.
صاحبة الجبين الشامخ المتطلع دائماً نحو شمس الحرية والاستقلال والعودة والمساواة والعدالة الاجتماعية. السيدة النحيلة الصلبة المبتسمة على الدوام، المتمردة على مرض حملته منذ سنوات طوال، الطائرة كفراشة ضوء لا تهدأ، تحط رحالها في ساحات النضال الوطني الفلسطيني المتعددة الممتدة من لبنان إلى سوريا فالضفة الغربية، يغادرنا جسدها فنحزن دون مكابرة، تعانق روحها أرواح شهداء قادة يتقدمهم رفيقها وصديقها هشام أبو غوش ويبقى لنا ذكرها الجميل وعزاؤنا أن بصماتها ستبقى حاضرة في وثائق وأدبيات تأسيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وفي الأهداف والتطلعات الوطنية والنسوية للمنظمة النسائية الديمقراطية الفلسطينية، وفي خطط عمل وتوجهات اتحاد لجان العمل النسائي.
رفيقتنا المتفانية إلى درجة الانصهار في تفاصيل الحياة اليومية للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية من موقعها كنائب لرئيسة الإتحاد، المناضلة في صفوف الإتحاد حتى الرمق الأخير يحدوها الإيمان بضرورة تعزيز مكانة هذا الكيان النسائي الشعبي، القاعدة من قواعد منظمة التحرير الفلسطينية، باعتباره ممثل المرأه الفلسطينية والمعبر عن وحدة نضالها في الوطن والشتات، الناشطة والمشاركة في تأسيس عديد الائتلافات النسوية في الوطن، صاحبة الذهن المتوقد والنظرة الثاقبة والعلامات المضيئة على بنود مسودات القوانين والتشريعات الفلسطينية المتعلقة بالمرأة وعلى سطور الاستراتيجيات النضالية الوطنية النسوية القائمة على الربط الوثيق بين الوطني التحرري من أجل دحر الاحتلال وبين النسوي الهادف إلى تحرر المرأة، لأنها كانت من بين المؤمنات بل بين اللواتي نقلن لنا إيمانهن وعمقنه فينا "بأن حرية فلسطين ترتبط بحرية المرأة وأن حرية المرأة ترتبط بحرية فلسطين".
سيدة العمل النسوي والوطني الوحدوي بامتياز، تغادرنا جسداً فنعاهدها أن نواصل السير على دربها، منطلقين من كون اتحاد لجان العمل النسائي والمنظمة النسائية الديمقراطية الفلسطينية سيبقيان على الدوام تماماً كما أرادت، جزءً لا يتجزأ من الحركة النسائية الفلسطينية المؤتلفة في إطار الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية ومدافعاً حريصاً عن تطلعات وأهداف وموقع الإتحاد ومكانته التمثيلية.
رفيقتي العزيزة نهاية، في دوامة البحث عن تسلسل الكلام الذي يفيك حقك، تلوح في ذهني صورة الأم المبعدة عن موقع نضالها وعن أطفالها أثناء واحدة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني. أتذكرك في فترة الإبعاد إلى لبنان، تقلبين صور أطفالك، تعبرين عن الشوق إلى تالا ومجد وأمجد، يوجعك حنين الأم فيك، لكنك سرعان ما تمسحين غبار الحنين عن عينيك وتمضين كي تتابعي تفاصيل تعزيز وحدة وتماسك فرع الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية في لبنان، من خلال إشرافك على إعادة تشكيل لجنته التحضيرية في العام 1987، وهي مهمة لم تكن تخلُ من عقبات سببها الانقسام السياسي والتحديات الوطنية التي كان يعبرها شعبنا في ذلك الحين، لكنها عقبات استطعت تذليلها بحنكة وطول نفس النقابية الوحدوية التي تحظى باحترام جميع الأطر النسائية الفلسطينية.
أتذكر احتفاءك بحلاوة ذلك الإنجاز وأنت ترددين أن وحدة الحركة النسائية الفلسطينية، هي تماماً كوحدة نضال شعبنا في الوطن وفي كافة بقاع الشتات، كلاهما من المقدسات التي يجب أن نصونها بحدقات الأعين، ولذلك كنت وحتى الرمق الأخير في مقدمة المناضلات من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس تضمن تعزيز نضال شعبنا ضد الاحتلال.
وفي خضم استحضار الذكريات الجميلة عن رفيقة وصديقة عزيزة، تردد أذناي صدى صوتك فرحاً، مزغرداً، فيه بشائر السماح لنا بدخول الضفة الغربية وتنسم رائحة الوطن، كما تحضرني صورتك ، فرحة ً، تصرخين وتهللين كأم تستقبل أحبةً، عمر غيابهم من عمر نكبة شعبنا، وأنت تعانقين الأخوات والرفيقات عضوات الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، القادمات من مختلف بقاع الشتات، كي يشاركن بأعمال المؤتمر العام الخامس للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية على أرض الوطن، ذاك الحدث النسائي التاريخي الذي لا يمكن أن ننساه كونه شكل محطة انطلاق مفصلية في مسار عمل الإتحاد، وكان لك الجهد الدؤووب المساهم في إنجاح أعمال ذاك المؤتمر.
نهاية، نحن رفيقاتك في النسائية الديمقراطية الفلسطينية (ندى) وفي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لا نستطيع أن نصف مشاعرنا تجاه رحيلك المبكر في بضعة سطور مكتوبة، لذلك تأتي جملنا مبعثرة متأثرة بحضرة غيابك. كل ما نستطيع قوله أننا نفتقدك، وتفتقدك معنا ساحات المواجهات النسوية ضد الاحتلال الإسرائيلي عند بوابات القدس، يفتقدك معنا الإتحاد العام للمرأة الفلسطينة، ركناً أساسياً ريادياً ينضم إلى الرائدات عصام عبد الهادي وجميلة صيدم وسميحة خليل وسهام سكر. تفتقدك معنا المنابر النسوية العربية والتقدمية في العالم وإن كان الاحتلال الاسرائيلي قد حال دون وصولك إلى العديد منها في السنوات الأخيرة.
ويستشعر حرقة غيابك معنا جيل من المناضلات الفلسطينيات من كافة المشارب والأطياف السياسية والاجتماعية، وجد فيك سمو الإنسان في المناضلة العريقة، جيل كنت له رفيقة، أخت كبرى، أم، مستمعة جيدة، موجهة وملهمة، تعلم وتؤهل وتنقل خبرتها إلى أفواج متعاقبة لنساء يحملن الراية ويمضين إلى الأمام كي تبقى المرأة الفلسطينية حارسة نار وبقاء النضال الوطني الفلسطيني.
المجد والخلود لروحك ولك منا العهد أن نواصل النضال والسير على نهجك الكفاحي المشرق الذي نعتز به جميعاً.
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية