سوسن شنار
يعز عليَّ أن أكتب عنكِ وقد رحلتِ، وأنتِ من أعز الناس، يا من قضيتِ حياتكِ مسكونة بحب الوطن ومناضلة في سبيله. لذا سأكتب إليكِ، سأحكي ملامح من رواية المنفى، من حكاية المنظمة النسائية الديمقراطية في مخيمات اللجوء في سوريا التي كانت. هذه التجربة الفريدة التي شكّلت بقيادتكِ وأنت القائدة النسوية التقدمية المؤسِّسة، مع كوكبة من رفيقاتك، نموذجاً مشرفاً ورائداً في النضال والتفاني في خدمة قضية الشعب الفلسطيني. سأروي قصة فعل وتأثير وتنوير لم تعرفها، ولن تعرفها أبداً، قوى الظلام التي توحشّت واتفقت، على اختلاف مشاربها، على الاعتداء على التاريخ ومحو شواهد قصة اللجوء.
أعتذر لكِ يا نهاية، فأنا لا أذكر أني أخبرتكِ ماذا قال فيكِ من كنا نعمل معهم لإنجاح مشاريع منظمتنا النسائية، حين أنشِئت، تحت مسؤوليتكِ، ثماني رياض للأطفال في مخيمات اليرموك، جرمانة، السيدة زينب، خان دنون، خان الشيح، حمص، والنيرب. لم أخبركِ أن المرحوم الدكتور عدنان عبد الرحيم رئيس دائرة التربية في منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يقول: نهاية محمد جوهرة حقيقية أحسدكم عليها، ويتساءل إن كان يتطوع من أجل مساعدتنا من أجل إنجاح عملنا التطوعي أم من أجل نهاية محمد. كان ينبهر عندما أحدثه عن حرصكِ على متابعة كل صغيرة وكبيرة، من حضور مجالس الأمهات إلى المناهج والملابس ووجبة الغذاء التي تقدمها وكالة الغوث، وتوصيتكِ الدائمة لي بالاهتمام بروضة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. كان يهلل ويقول: طبعاً هذه هي نهاية محمد. ويوم رممنا بعض الأثواب القديمة في مسعانا لحفظ الأزياء التي تحكي قصص جداتنا وأقمنا عرضا للأزياء، كانت متابعتكِ لكل التفاصيل مبعث عجب وإكبار. فكتب الشاعر عبد الله عيسى فيكِ شعراً، ووصفكِ الملحن العراقي سامي كمال بأنكِ ذواقة، أما الفنانة التشكيلية سمية صبيح فقالت: "كلكم تعملون بس نهاية غير". أذكر يا نهاية الفنانة المدربة زكية المحتسب، التي ساعدت في بناء لياقة الأطفال تحضيراً لمسرحية "البنفسج"، وكم كانت تدهشها متابعتكِ الدائمة للتفاصيل، وكيف كانت تقول: هذه قائدة شاملة، من أين تجد كل هذا الجَلد لتتابعنا في كل خطوة وكل بروفا ولتقدم كل هذه الملاحظات المفيدة. كل هذا، وكثير غيره لأقول لكِ أنكِ كنتِ المناضلة الباحثة عن الكمال في كل عمل وكل مهمة.
راجعت مجموعة من أعداد نشرة "اللجان النسائية"، لسان حال المنظمة النسائية الديمقراطية في سوريا، والتي شملت مواضيعها هموم شعبنا في مخيمات اللجوء، من الهم الوطني إلى الهم الاجتماعي، وجدتُ فيها مواضيع عن الزواج المبكر والمطالبة برفع سن الزواج، عن الحق في التعليم، عن المساواة بين الجنسين، وعن تحسين ظروف العمل للنساء العاملات. لقد فهمتُ من جديد مدى تواصلك مع هموم النساء، متسلحة بتجربتكِ الغنية وجدارتكِ القيادية.
عاصرتُ ترؤسكِ لائتلاف قانون الأحوال الشخصية. ولا أنسى متابعتكِ الدؤوبة لشؤون الخارجين من بيروت في ذلك الصيف اللافح من عام 1982، وكيف تحول الطابق الأرضي من مبنى الشبيبة الديمقراطية في مخيم اليرموك إلى مركز لتوزيع التموين وتقديم مقومات البدء بحياة جديدة. لن أنسى يا نهاية تعليماتكِ عند الذهاب لحضور اجتماع لجنة التنسيق الفصائلية بالسعي إلى القواسم المشتركة، وكيف كان الموقف الجمعي هدفاً يؤكد حرقتكِ من الانقسام وسعيكِ لاستعادة الوحدة الوطنية.
لم أستغرب إقامة بيت وفاء لكِ في مخيم النيرب في مدينة حلب المنكوبة، فأنتِ المناضلة الوطنية والديمقراطية والتنويرية التي تتقن التعامل مع النساء من حاملات أعلى الشهادات إلى أبسط ربات البيوت. يعرفكِ أهالي ترشيحا جيداً، تعرفكِ معلمات روضة النيرب وتعرفكِ عضوة كل لجنة فيه. لم ينسوكِ رغم كل المعاناة. مؤكد أن كافة نساء مخيمات سوريا يذكرنكِ، ولو أن يد الظلام لم تمتد لتغتال التاريخ وشواهد اللجوء وتعيد تهجير أبناء شعبنا، لأقامت لكِ بيوت وفاء نساء مخيم حندرات ونساء بلد الشيخ ولوبية وطبريا وعيلوط ومعليا ونحف، ونساء مساكن الزاهرة وكفر سوسة ودوما وجوبر وركن الدين وحي الأمين، ولما كانت تقصّر أم حسين مطر لإحياء ذكراكِ في مخيم اليرموك الشهيد، ترى أين هي أم حسين مطر الآن؟ وأين مئات النساء من عضوات اللجان اللواتي كنّ كخلايا النحل في كل مخيم؟ لو لم تكن نساء سوريا مشغولات بمآتم أبنائهن لكان لكِ في كل زقاق مأتم، فليس هناك شارع لم يسمع وقع خطواتكِ ولا زقاق لم تعقدي فيه الاجتماعات لنساء قررن أن يكون لهن دور في النضال الوطني والنضال من أجل الحصول على حقوقهن في آنٍ واحد.
سيظل ماثلاً في ذاكرتنا جميعاً جهدكِ الدائم والاستثنائي من أجل تنظيم النساء في إطار ينظم طاقاتهن وإمكاناتهن، وإصراركِ على تكريس الحياة الديمقراطية من خلال الاجتماعات الموسعة وانتخاب الهيئات بشكل ديمقراطي، وعملكِ مع رفيقاتكِ عضوات المكتب والمجلس النسائي واللجان التخصصية على دورية انعقاد المؤتمرات وانتخاب الهيئات القيادية، من أجل المساهمة الفعالة في بناء وطن حر من الإحتلال وإقامة مجتمع ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة في القوانين والتشريعات. وسيظل جهدكِ هذا ملهماً لجميع رفيقاتكِ وأخواتكِ.
وسيظل مصدر اعتزاز لي أنني عاصرتكِ وعملتُ معكِ في تلك الفترة الغنية، التي شكلت إلهاماً لنا جميعاً وعززت انتماءنا لقيم الحرية والعدالة والمساواة التي لن يكف شعبنا الفلسطيني عن النضال في سبيلها.
لـ "أبو أمجد" الرفيق العزيز والسند الدائم، ولتالا ومجد وأمجد الصبر والفخر، باقية أنتِ يا نهاية.
عضوة الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية