ذات احد، قبل عامين، مشيت للبيت لألتقط أنفاسي قليلاً حين كانت انفاسكِ تبخل عليكِ، وعدتك أن اعود قبل الغروب، كنت لا تريدين الكلام اكتفيت بالنظر. كانت عيونك الصغيرة تحادث غيري في مكان اخر.. كأنك تكتبين بطرف دفترك الصغير موعد اخر.. وقبل ان تنهي تسجيله كانت حنونتك الصغيرة ترتسم.. تمسكين القلم بين اصابعك المثخنة بالشقاء.. كان امتشاقك للقلم –ككل حياتك- مواجهة للتعب وانتصاراً على الواقع.. لكنك كنت تستحقيه بجدارة.. لم ارى بعد غيرك يحمل القلم كذا، ولم ارى بعد بجمال خطك على الورق...
كل صباح كان اجمل وانت تلتقطين خيوط المواعيد على مفكرتك.. في الصباح ستجري فحص الدم الدوري، ستقرأيه قبل الطبيب، نظرة سريعة على الارقام وتحليل فوضوي منك سيجعلك تقررين أن الحالة ممتازة وانك تستحقين مكافأة، كانت المكافأة شغف بشيئ ما لذيذ يبدأ بالطعام ولا ينتهي عند القفز على الورد.. دقائق ويعود خيالك الى الواقع، فتنظرين بمفكرتك العتيقة لتقول لك اذهبي الى "النجدة".. تطالعين درجات العمارة القديمة... درجات طوال، تتعبك الا انك تستمتعين بها، الكل يعرفك في "الميدان" وانت تعرفين الكل في الميدان حتى صار عقلك يحصر كل خيارات التبضع فيها، من هناك تشتري للاطفال العاب ولابي ملابس ولك كتب... ما حاجتك بغير ذلك!
تصّلين المكتب اخيراً، انت التي كثفتي كل دروبك وبيوتك وغرفك بتلك الكلمة "المكتب". كنت دوماً في مكتب ما، حتى في غرفة نومك. للمكاتب روح تستمد سلامها من وجودك.. يوم العطلة هو يوم المكتب بالنسبة لك، اوراق لا تنتهي، بوسترات على الجدران، وحاسوب لا داعي له، العاب اطفال للروضات وكتب النشأة والمسار للكبار، كفوف اصابعك بطرف الدرج الذي لا يغلق، واناس من كل الطيف، امهات واباء، عمال، حزبيات، صديقات، كلهم يرافقون الدرجات ليروك... ومن لم يأتِ سيهاتفك، كل يبحث عن حفنة أمل لن تترددي بارساله بين ثنايا صوتك، ستجدين كل الحلول.. "نحتاج لقطعة ارض لبناء الروضة.. سنجد!" "احتاج لقسط جامعي لابنتي.. سنجد!" "علينا نقاش مسودة القانون.. سنفعل!" "قد أستحق عقد الاداري..لدينا وقت!" "كيف نؤّمن ميزانيات المواقع.. بسيطة!".. كل مشكلة كانت مشروع بذاته، وكنت تستمتعين بالوقوف على قمة العطاء... قلائل من عرف حجم مسؤولياتك، معظمهم عرفك بمجال، بقطاع، بمشكلة، بانتماء، اما انا فعرفتك بكل ذلك.. كنت خبيرً بكِ بمجرد الاستماع لردودك على الهاتف..اليوم أحاول تفكيك اللغز! كيف فعلتها؟.. كيف جعلت من حياتك ورشة عمل بكل هذه الشمولية.. كيف صنعتنا الى جانب كل هذا التراكم من العمل والانجاز والاخفاق والتحدي والمرض والحب والثقافة والهدوء والحكمة والحيوية!
لا يهدأ ذاك الهاتف من ان يغني "نحن والقمر جيران".. حتى وان طلبتِ مني أن اهاتفك فقط لتري صورتي مقرونة برقمي.. اهاتفك لأطلب منك العودة الى البيت.. الشمس حارقة هذا الثلاثاء وساحة الصليب حيث تقضين الثلاثاء بغيضة... وأمهات الاسرى لن يعتبو عليك إن غادرت، هن الاطيب مثلك، هن الاكثر عطاءً، وجعاً، تضحية، والاكثر حناناً وامومةً وسماحةً، منذ رحلت امي يقتلني أي خبر عن ام اسير، لا اقوى على النظر الى صورهن او سماع امنياتهن، لا ارى فيهن الا انت وصوتك ووجعك، تقتلني فكرة ان ترحل ام لاسير.. كنت تقولي أن الوعي العفوي لهؤلاء السيدات هو ما يؤكد صوابية خيارات ابنائهن وبناتهن، اذكر نقاشنا الذي انتهى بأن امثلة المثقف العضوي في زمن انسحاب الأحزاب هي امراءة كبيرة في السن تتلحف صورة ابنها المعتقل تجلس في ساحة الصليب كل يوم.. هي تملك الوعي وقوة التاثير وجدارة النقاش بعكس كل من ينظر دونهن ... ما زال الجميع في السجن امي، وما زالت الامهات تحتضن التراب قبل الابناء.. او حتى تتمنى احتضان ابنائها التراب الادفئ من ثلاجات الاحتلال...
أسدل الرب ستائر نوافذي على العالم ذات اثنين، ولا أخفيك يا أمي أنني كنت أناني بعد رحيلك، عاملت الفقد كجرح أصابني وحدي، يؤلمني ولا يلتئم، ما فكرت يوماً كيف أصابك، ماذا فعل بكِ، ايؤلمكِ كما يفعل بي؟ لم تخبريني عنه! ولم أسأل انا، إن كان جرحي بهذا الألم، فكيف بجرحك، إن كنت أنا أفتقدكِ، فأنت تفتقدين الجميع، أيعقل حتى بالفراق تتسامين وتكابرين، متى سنفهم انا وانت أن المكابرة لا تقلل الألم، بل تجعلنا ننغمس بوجع الروح، ونغفل الندب التي تتركها هذه الايام في ذواتنا، حتى نحس بتلك الصفعة المدوية و نحن ندرك أن الغياب علاقة ثنائية، وأن الفقد فعل مشترك، وأن الفراق فعل انتحار جماعي يحكم بالعدم كل اطرافه... كيف لي أن أحمل عنك بعض تعب فراقنا... لا أدري كيف أقلل تعبي برحيلك دونك امي! أعتدت أن انتظر رايك وتقيمك لي، مرعب هذا الكون بلا رأيكِ، مرعب هذا المجهول الذي لم تحسبيه لي.
بالنهاية يا نهاية، نحن جميعاً على الوعد، نحبك نشتاقك، ونحمل اسمك للافق ونبقى نحرس ارثك.. نحن بخير قليلاً وعلى الوفاء كثيراً
امجد