محمود خليفة
الابنة الرابعة بعد اعتدال وعادل ووداد لأبيها مصطفى محمد الآتي من قرية لوبيا الجليلية إلى مدينة طبريا الكنعانية. ولأمها سعدة خليل العبد المقيمة مع عائلتها فيها. عام النكبة وُلدت، حيث اقتُلع الشعب والممتلكات وتشرد الناس، وتبددت الشخصية الوطنية وانهدَ النسيج وتوزع الجمع كله. حملتها النكبة إلى مخيمات لبنان فسوريا فكانت الطفولة والشباب ونشوء الوعي الأول وبدء تشكل الشخصية.
نهاية محمد: تعرف نفسها بأنها ابنة لغتها وبيئتها، بنت النكبة... فالعودة إلى طبريا ولوبيا الجليلية وبلد الشيخ حيفا، وإلى فلسطين... وتستدرك نهاية أن العودة حق لنا يحميه ويبرره واجب وكفاح العمل من أجله.
تشكل وعيها بمعرفة أسماء الأماكن والقرى التي مرت بها قوافل المهجرين قسراً من بلادهم وبمعرفة المخيمات التي عاشت وأحبت وعملت فيها.. اليرموك وجرمانة والسبينة ... فأيقنت أنها وعائلتها من اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم النكبة إلى الديار البعيدة وأن اللاجئين كثر، وأن المخيمات وأحزمة الفقر حول عواصم العرب أماكن انتقالية للعودة إلى فلسطين.
في المكان الجديد نما هم العودة ورافقها حتى الرحيل الأبدي. إنها مرحلة الشعور وتشكل العاطفة الأولى تجاه اللاجئين وتجاه الفلسطيني والآخر. تعرفت نهاية مبكراً على القوميين والناصريين وسمعت بالفدائيين وحملت ذلك في مراحلها الدراسية المختلفة ووجدت نفسها مع غيرها في لجان الدفاع عن الوحدة العربية.
برزت لاحقاً ميولها الأدبية واهتماماتها بمطالعة الكتب والدراسات والقراءات لساطع الحصري والكواكبي وعازوري، واهتمامها بالأدب العالمي وروايات "عشرة أيام هزت العالم" و"متى تشرق الشمس يا رفيق"، بذلك لفتت نظر المعلمة والإدارة المدرسية والأصدقاء "حيث كانت الثقافة والمعرفة والتعليم تعني مكانة وأهمية اجتماعية وشخصية" كما تقول نهاية.
أصبحت نهاية محمد رئيسة اللجنة الثقافية ومسؤولة عن مجلة الحائط المدرسية في ثانوية البنات الأولى في دمشق. وصارت محور حديث الطالبات وأصبحت القيادة غير الرسمية للمدرسة ومجال افتخار واعتزاز الفلسطينيات والقوميات معاً، وصارت محط أنظار الجميع واكتسبت سمعة الفلسطينية التي ترفع رأس شعبها كما قالت بعضهن لاحقاً في مرحلة الجامعة والحياة العملية.
اعتزت نهاية محمد بهويتها اللاجئة والحالمة بالعودة وهي ابنة الأسرة الفقيرة والمُعالة من قبل أمها العاملة في شركة الصناعات الغذائية. جمعت نهاية محمد بين الدراسة الثانوية والعمل في شركة "سيرونيكس"، مثل الكثير من طلاب وطالبات الثانوية، لتوفير مصروفاتها للعام الدراسي الجديد فأصبحت الطالبة والعاملة معاً، واكتسبت مواصفات ومزايا وقيم العمل كالانضباط والتعاون والعمل الجماعي، ونما لديها الحس الطبقي والشعور بمصلحة الجماعة.
فإذا كانت حكايا الأم والأشقاء والوالد عن لوبيا وطبريا والتهجير القسري، وحكايا الأقران والجيران مصدر وعيها الأول، فإن انطباعات الحارة والمدرسة واللاجئين والمخيم قد شكلت بذرة الوعي الوطني العام، عن فلسطين وعن العودة. وإذا كان التعليم والبيئة والعمل، شكل لها الوعي الاجتماعي، فإن أخبار انعقاد المؤتمر الأول للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في القدس، وأخبار تكليف القمة العربية لأحمد الشقيري ونشاطاته والمؤتمر الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، وافتتاح مكتبها في دمشق، دفعها مع نشطاء الدفاع عن الوحدة والحالمين بالعودة إلى فلسطين، للاحتكاك بمكتب المنظمة، والمشاركة المبكرة في النضال الوطني، وفي العمل المنظم من أجل العودة. وشكل ذلك لنهاية، مدخلاً للتعرف على الرائدات الأوائل في سوريا والعمل على تأسيس فرع الإتحاد العام للمرأة في سوريا بقيادة سعادة الكيلاني، وزميلاتها. وبما ساعد ومكن من العمل على عقد المؤتمر العام الثاني في بيروت، أوائل السبعينيات، الذي تشكل من فرع سوريا وعدد آخر من فروع الإتحاد في البلدان العربية. وأصبحت الراحلة عضواً في الأمانة العامة مع رائدات مناضلات وطليعيات، بعضهن في عمر أمها، مما أتاح لها فرصة التعلم منهن والاطلاع على تجارب ونجاحات واخفاقات متعددة، وسَعت معارفها وصقلت تجاربها وأثرت بحياتها العملية والنضالية تأثيراً كبيراً وإيجابياً.
جمعت نهاية بين التزامها وعملها الوظيفي في التربية، كمعلمة للرياضيات في مدارس مخيم درعا ومدرسة فرَادة في مخيم السبينة، وبين مهماتها الإتحادية في الأمانة العامة وفي لجنة العلاقات الداخلية للاتحاد، مع مهمات عامة وطنية ونضالية أخرى في الجبهة الديمقراطية وفي المنظمة النسائية الديمقراطية الفلسطينية في مخيمات سوريا. وتزاملت مع القادة النسويات كعصام عبد الهادي وزميلاتها. واستحقت الراحلة كثيراً من شهادات التقدير والثناء على عملها ونجاحها التربوي والمهني وعلى تطوعها ومشاركتها النشطة والفاعلة في العمل الوطني والاجتماعي النقابي النسائي.
وفي الثلث الأخير من عقد السبعينيات، كُلفت نهاية مع غيرها من المؤمنات بقضية المرأة وبدورها في تقدم المجتمع ونهوضه، ببناء المنظمة النسائية الديمقراطية في مخيمات سوريا، بعد أن كان قد بدأ العمل على بناء اتحاد لجان العمل النسائي داخل الوطن في منتصف السبعينيات تقريباً. وتزاملت الراحلة في المهمة الجديدة مع ناشطات مبعدات من فلسطين والأردن، ومع لاجئات المخيمات في سوريا.
شكلت نهاية مع زميليها عصام الفايز وبشير زقوت، المكلفان ببناء منظمة الشبيبة الديمقراطية الفلسطينية، ومع الراحل هشام أبو غوش أمين إقليم سوريا في حينها، رباعياً قيادياً جماهيرياً، كان موضع فخر واعتزاز كل من عمل معهم في إنشاء ذاك البناء الجماهيري المتين. ولعبت الراحلة دور "المايسترو" المبدع في توحيد وتنسيق البرامج والخطط والجهود، والموحدة للإرادة والعمل على مستوى القيادة والقاعدة وعموم التنظيم، وربطت بين النشاط والتنظيم وبين الهيئات وإطارها الصديق في العمل والحشد والتوسع، وتُوِج هذا الدور بالنجاح التام. وغدا بذلك إقليم سوريا للجبهة الديمقراطية، ركيزة للنضال الوطني الفلسطيني وضمانةً لحماية المنظمة وبرنامجها، في مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد.
ولعبت أم الوطنية الفلسطينية نهاية محمد، من خلال عضويتها القيادية وحكمتها الإدارية وديمقراطيتها، دوراً بارزاً وهاماً في مواجهة محاولات النظام العربي، العبث بمنظمة التحرير، وبالحفاظ على القرار الوطني المستقل.
تعرضت نهاية للإبعاد من سوريا أواخر العام 1985، فاقتُلعت من بين أبنائها وعائلتها للمنفى، وعادت بعد ثلاث سنوات، عندما نجح الشهيد خليل الوزير في إعادة المنظمة برمتها إلى دمشق، لتشييعه ودفنه في مقبرة الشهداء في اليرموك بعد استشهاده في تونس. وعملت خلال فترة إبعادها في لبنان على إعادة تعزيز وحدة فرع لبنان للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وفي فرع لبنان للمنظمة النسائية الديمقراطية، وتعرفت على مختلف المخيمات الفلسطينية، مضيفةً خبرتها وتجربتها المُكتسبة في مخيمات سوريا، إلى خبرة وتجربة مخيمات لبنان.
وتحملت أم الوطنية القائدة النسوية، الراحلة المناضلة، الحالمة بالعودة والعاشقة لتراب الوطن وللناس، بعد عودتها من الإبعاد، مسؤولية إقليم سوريا منتصف 1988، ونجحت نجاحاً كبيراً في هذه المسؤولية التي استمرت فيها حتى العودة إلى الجزء المتاح من الوطن مع نهاية الانتفاضة الأولى.
وعلى أرض الضفة بعد العودة ظهر يوم 26-8-1994، وضعت الراحلة، برنامجاً خاصاً أطلقت عليه اسم "اعرف وطنك"، تعرفت من خلاله على جميع المدن والبلدات والمخيمات، على طرقها ومداخلها ومخارجها، وخبرت الطرق الالتفافية والبديلة بسبب الحواجز والإغلاقات الدائمة. ونجحت مع زميلاتها في توحيد جهود فروع وأقسام الإتحاد في الداخل والخارج لخدمة قضية المرأة والقضية الوطنية العامة، ذلك الدور الذي نجح فيه الإتحاد العام للمرأة.
وتزاملت الراحلة، في العمل النسائي الموحد في الضفة وغزة، مع الرائدات سميحة خليل وزميلاتها، ومع مجموع الأطر والمراكز والهيئات النسوية، وقادت لجنة العلاقات الداخلية لنشر وتوسيع أطر الإتحاد وقواعده واستكمال هياكله في الضفة وغزة.
لعبت نهاية دوراً بارزاً في تشكيل لجان وائتلافات تحديث وتطوير التشريعات والقوانين المتعلقة بالمرأة. حيث كانت منسقةً لعمل اللجنة الوطنية لقانون الأسرة التي تضم الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية ومجموعة من المؤسسات النسوية والحقوقية. وشاركت في نقاشات تعديل وتحديث قوانين العقوبات والميراث وتنظيم الأسرة والنفقة، وقانون الطفل وحماية المرأة من العنف وإنهاء أشكال التمييز ضدها، بتوجه واضح وتصميم نحو عصرنة ودمقرطة التشريع الخاص بالمرأة وبحقوقها ومكانتها.
مثلت نهاية محمد، الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، في العديد من المؤتمرات والمحافل والنشاطات العربية والإقليمية والدولية عبر العالم. إلى أن مُنعت في العام 2005 من السفر وبشكل مشدد من قبل الاحتلال الإسرائيلي حتى رحيلها.
نهاية: كنت وستبقين في العقول وفي الأذهان لدى أسرتك وعائلتك ومحبيك، ومن عملوا بجانبك وتحت قيادتك وتزاملوا معك، وستكرسين لدى أبناء جيلك والأجيال اللاحقة التي تتلمذت وتعلمت وتربت على يديك، ميلاد قضية المرأة بعد النكبة، وستنيرين لمن رافقك رحلة نضالك الطويل والممتد، آرام وهداية الدرب للعودة إلى أرض الآباء والأجداد. ستبقى سيرتك ومسيرتك يا سيدة العطاء والمبادرة، ويا مدرسة الائتلاف والوحدة، مصدر إلهام وافتخار للمرأة الفلسطينية والعربية، نسير من بعدك على هدي خطاك، وهدي المبادئ والقيم التي أرسيت بتجربتك. نسير على طريقك لتحقيق أهداف العودة والتحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، الأهداف، التي حلمت وكافحت ورحلت من أجلها.
وسنبقى نحب الحياة ونعشق الأرض كما كنت أم الوطنية، نهاية محمد، ميلاد القضية وهادية العودة.
رفيق الدرب من البداية للنهاية